السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تعريف السورة:
هي سورة مدنية
عدد اياتها 31
76 من حيث الترتيب في المصحف
تفسيرها
اعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمان الرحيم
(1-3)"هل اتى على الانسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا*انا خلقنا الانسان من نطفة امشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا*انا هديناه السبيل اما شاكرا واما كفورا*"
دكر الله في هذه السورة اول حال الانسان ومنتهاها ومتوسطها, فذكر انه مر عليه "حين من الدهر"طويل وهو الذي قبل وجوده وهو معدوم"لم يكن شيئا مذكورا"ثم لما اراد خلقه خلق اباه ادم من طين ثم جعل نسله متسلسلا"من نطفة امشاج" أي:ماء مهين مستقذر"نبتليه" بذلك لنعلم هل يرى حاله الاولى ويتفطن لها ام ينساها وتغره نفسه,فانشاه الله وخلق له القوى الظاهرة و الباطنة كالسمع و البصر وسائر الاعضاء فاتمها له وجعلها سالمة يتمكن بها من تحصيل مقاصده.
ثم ارسل اليه الرسل وانزل عليه الكتب وهداه الطريق الموصلة اليه وبينها ورغبه فيها واخبره بما له عند الوصول اليه.
ثم اخبره بالطريقة الموصلة الى الهلاك و رهبه عنها و اخبره بما له اذا سلكها وابتلاه بذلك, فانقسم الناس الى شاكر لنعمة الله عليه قائم بما حمله الله من حقوقه, والى كفور للنعم,انعم الله عليه بالنعم الدينية و الدنيوية فردها وكفر بربه وسلك الطريق الموصلة الى الهلاك, ثم ذكر الله تعالى حال الفريقين عند الجزاء فقال:
(4-22)"انا اعتدنا للكافرين سلاسلا واغلالا وسعيرا*ان الابرار يشربون من كاس كان مزاجها كافورا* عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا*يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا*ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما واسيرا*انما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا*انا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا*فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا* وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا*متكئين فيها على الارائك لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا* ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا* ويطاف عليهم بانية من فضة واكواب كانت قواريرا*قواريرا من فضة قدروها تقديرا* ويسقون فيها كاسا كان مزاجها زنجبيلا* عينا فيها تسمى سلسبيلا*و يطاف عليهم ولدان مخلدون اذا رايتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا* واذا رايت ثم رايت نعيما وملكا كبيرا*عليهم ثياب سندس خضر و استبرق وحلو اساور من فضة وسقاهم ربهم شرابا طهورا* ان هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا*"
أي:انا هيانا وارصدنا لمن كفر بالله وكذب رسله وتجرا على معاصيه"سلاسل"في نار جهنم, كما قال تعالى:"ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه".
"واغلالا" تغل بها ايديهم الى اعناقهم ويوثقون بها"وسعيرا"أي: نارا تستعر بها اجسامهم وتحرق بها ابدانهم,كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب , وهذا العذاب الدائم مؤبد لهم مخلدون فيه سرمدا.
واما "الابرار" وهم الدين برت قلوبهم بما فيها من معرفة الله ومحبته والاخلاق الجميلة فبرت اعمالهم واستعملوها باعمال البر فاخبر عنهم" يشربون من كاس"أي: شراب لذيذ من خمر قد مزج كافور أي خلط به ليبرده ويكسر حدته, وهذا الكافور في غاية اللذة قد سلم من كل مكدر ومنغص موجود في كافور الدنيا.
"عينا يشرب بها عباد الله"أي:ذلك الكاس الذيذ الذي يشربونه لا يخافون نفاده بل له مادة لا تنقطع وهي عين دائمة الفيضان و الجريان يفجرها عباد الله تفجيرا انى شاءوا وكيف ارادوا, فان شاءوا صرفوها الى البساتين او الى الرياض النضرات او بين جوانب القصور و المساكن المزخرفات او الى أي جهة يرونها من الجهات المؤنقات.
ثم ذكر جملة من اعمالهم فقال:"يوفون بالنذر"أي:بما الزموا به انفسهم من النذور والمعاهدات, واذا كانوا يوفون بالنذر الذي هو غير واجب في الاصل عليهم الا بايجابهم على انفسهم كان فعلهم وقيامهم بالفروض من باب اولى واحرى."ويخافون يوما كان شره مستطيرا"أي: قاسيا منتشرا فخافوا ان ينالهم شره فتركوا كل سبب موجب لذلك.
"ويطعمون الطعام على حبه"أي: وهم في حال يحبون فيها المال والطعام,لكنهم قدموا محبة الله على محبة نفوسهم, ويتحرون في اطعامهم اولى الناس واحوجهم
"مسكينا و يتيما واسيرا"ويقصدون بانفاقهم واطعامهم وجه الله تعالى ويقولون بلسان الحال :"انما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا"أي:لا جزاء ماليا ولا ثناء قوليا."انا نخاف من ربنا يوما عبوسا "أي:شديد الجهمة والشر"قمطريرا"أي:ضنكا ضيقا
"فوقاهم الله شر ذلك اليوم"فلا يحزنهم الفزع الاكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم التي كنتم توعدون."ولقاهم"أي:اكرمهم واعطاهم"نضرة"في وجوههم"وسرورا"في قلوبهم فجمع لهم بين نعيم الظاهر و الباطن"وجزاهم بما صبروا"على طاعته فعملوا ما امكنهم منها, وعن معاصيه فتركوها, وعلى اقداره المؤلمة فلم يتسخطوا"جنة"جامعة لكل نعيم سالمة من كل مكدر ومنغص"وحريرا"ولعل الله انما خص الحريرلانه لباسهم الظاهر الدال على حال صاحبه.
"متكئين فيها على الارائك"الاتكاء التمكن من الجلوس في حال الطمانينة والراحة والرفاهية, والارائك هي السرر التي عليها اللباس المزين"لا يرون فيها"أي: في الجنة"شمسا" يضرهم حرها"ولا زمهريرا"أي: بردا شديدا بل جميع اوقاتهم في ظل ظليل.
"ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا"أي:قربت ثمراتها من مريدها تقريبا ينالها وهو قائم او قاعداو مضطجع.
"ويطاف عليهم"أي:يدور الولدان و الخدم على اهل الجنة"بانية من فضة واكواب كانت قواريرا*قواريرا من فضة"أي: مادتها فضة وهي على صفاء القوارير,وهذا من اعجب الاشياء ان تكون الفضة الكثيفة من صفاء جوهرها وطيب معدنها على صفاء القوارير.
"قدروها تقديرا"أي:قدروا الاواني المذكورة على قدر ريهم لا تزيد ولا تنقص لانها لو زادت نقصت لذاتها ولو نقصت لم تكفهم لريهم, ويحتمل المراد قدرها اهل الجنة بمقدار يوافق لذاتهم فاتتهم على ما قدروا في خواطرهم."ويسقون فيها"أي:الجنة,"كاسا" وهو الاناء من الخمر ورحيق" كان مزاجها"اي:خالطها "زنجبيلا"ليطيب طعمه وريحه.
"عينا فيها تسمى سلسبيلا"سميت بذلك لسلاستها ولذتها وحسنها.
"ويطوف عليهم"أي:على اهل الجنة في طعامهم و شرابهم وخدمتهم"ولدان مخلدون"أي: خلقوا من الجنة للبقاء لا يتغيرون ولا يكبرون وهم في غاية الحسن"اذا رايتهم"منتشرين في خدمتهم" حسبتهم"من حسنهم"لؤلؤا منثورا" وهذا من تمام لذة اهل الجنة ان يكون خدامهم الولدان المخلدون.
"واذا رايت ثم"أي: رمقت ما اهل الجنة عليه من النعيم الكامل"رايت نعيما وملكا كبيرا"فتجد الواحد منهم عنده من المساكن والغرف المزينة المزخرفة ما لا يدركه الوصف, ولديه من البساتين الزاهرة والثمار الدانية والفواكه اللذيذة والانهار الجارية والرياض المعجبة والطيور المطربة المشجية ما ياخد القلوب ويفرح النفوس,ولديه من الزوجات اللاتي في غاية الحسن والاحسان الجامعات لجمال الظاهر والباطن, وحوله من الولدان المخلدين مابه تحصل الراحة و الطمانينة, وعلاوة على ذلك ومعظمه الفوز برضى الرب الرحيم وسماع خطابه ولذة قربه.
"عاليهم ثياب سندس خضر"أي:قد جللتهم ثياب السندس والاستبرق الاخضران اللذان هما اجل انواع الحرير, فالسندس ما غلظ من الحرير والاستبرق ما رق منه"وحلوا اساور من فضة"أي: حلوا في ايديهم اساور ذكورهم واناثهم, وهذا وعد وعدهم الله وكان وعده مفعولا وكان وعده مفعولا.
وقوله :"وسقاهم ربهم شرابا طهورا "أي: لا كدر فيه بوجه من الوجوه,مطهرا لما في بطونهم من كل اذى "ان هذا"الجزاء الجزيل "كان لكم جزاء"على ما اسلفتموه من الاعمال "وكان سعيكم مشكورا "أي: القليل منه يجعل الله لكم به من النعيم ما لا يمكن حصره.
(23-31)"انا نحن نزلناعليك القران تنزيلا*فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم ءاثما او كفورا*واذكر اسم ربك بكرة واصيلا*ومن الليل فاسجدله وسبحه ليلا طويلا*ان هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا*نحن خلقناهم وشددنا اسرهم واذا شئنا بدلنا امثالهم تبديلا*ان هذه تذكرة فمن شاء اتخذ الى ربه سبيلا* وما تشاؤون الا ان يشاء الله ان الله كان عليما حكيما*يدخل من يشاء في رحمته والظالمين اعد لهم عذابا اليما*"
وقوله تعالى لما ذكر نعيم الجنة:"انا نحن نزلنا عليك القران تنزيلا"وفيه الوعد والوعيد وبيان كل ما يحتاجه العباد, وفيه الامر بالقيام باوامره وشرائعه اتم القيام والسعي في تنفيذها و الصبر على ذلك.
ولهذا قال:"فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم اثما او كفورا"أي:اصبر لحكمه القدري فلا تسخطه, ولحكمه الديني فامض عليه ولا يعوقنه عنك عائق"ولا تطع" من المعاندين الذين يريدون ان يصدوك "اثما "أي:فاعلا اثما ومعصية ولا" كفورا" فان طاعة الكفار والفجار والفساق لابد ان تكون معصية لله فانهم لا يامرون الا بما تهواه انفسهم. ولما كان الصبر يستمد من القيام بطاعة الله والاكثار من ذكره امر الله بذلك, فقال:"واذكر اسم ربك بكرة واصيلا"أي:اول النهار واخره, فدخل في ذلك الصلوات المكتوبات وما يتبعها من النوافل والذكر والتسبيح والتهليل والتكبير في هذه الاوقات.
"ومن الليل فاسجد له"أي:اكثر له من السجود, وذلك متضمن لكثرة الصلاة"وسبحه ليلا طويلا" وقد تقدم تقييد هذا المطلق بقوله:"يا ايها المزمل*قم الليل الا قليلا*نصفه او انقص منه قليلا*او زد عليه"
وقوله:"ان هؤلاء"أي: المكذبين لك ايها الرسول بعد ما بينت لهم الايات بل لا يزالون "يحبون العاجلة" ويطمئنون اليها "ويذرون" أي:يتركون العمل ويهملون"وراءهم" أي: امامهم "يوما ثقيلا" وهو يوم القيامة الذي مقداره خمسون الف سنة مما تعدون.
ثم استدل على بعثهم بدليل عقلي وهو دليل الابتداء, فقال:"نحن خلقناهم"أي: اوجدناهم من العدم"وشددنا اسرهم"أي: احكمنا خلقتهم بالاعصاب و العروق و الاوتار والقوى الظاهرة والباطنة حتى تم الجسم واستكمل وتمكن من كل ما يريده.فالذي اوجدهم على هذه الحال قادر على ان يعيدهم بعد موتهم لجزائهم والذي نقلهم في هذه الدار الى هذه الاطوار لا يليق به ان يتركهم سدى لا يؤمرون ولا ينهون ولا يثابون ولا يعاقبون, ولهذا قال:"واذا شئنا بدلنا امثالهم تبديلا"أي: انشاناهم للبعث نشاة اخرى واعدناهم باعيانهم وهم بانفسهم امثالهم.
"ان هذه تذكرة"أي: يتذكر بها المؤمن فينتفع بما فيها من التخويف والترغيب.
"فمن شاء اتخذ الى ربه سبيلا"أي:طريقا موصلا اليه, فالله يبين الحق و الهدى ثم يخير الناس بين الاهتداء بها والنفور عنها اقامة للحجة ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة.
"وما تشاءون الا ان يشاء الله"فان مشيئة الله نافذة"ان الله كان عليما حكيما"فله الحكمة في هداية المهتدي واضلال الضال.
"يدخل من يشاء في رحمته"فيختصه بعنايته ويوفقه لاسباب السعادة ويهديه لطرقها.
"والظالمين"اللذين اختاروا الشقاء على الهدى"اعد لهم عذابا اليما" بظلمهم وعدوانهم.